العذاب الممتد: قراءة في مقولة نيتشه حول الأمل كأعظم الشرور

Festv1//
بقلم: لخضر عبدالله
"الأمل هو أسوأ الشرور، لأنه يطيل عذاب الإنسان." بهذه العبارة القاسية والصادمة، يلخّص الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900) واحدة من أكثر أفكاره إثارة للجدل. إنها ليست مجرد تشاؤمية عابرة، بل هي خلاصة نقد عميق لجوهر الوجود البشري وآلياته النفسية. فما الذي قصده نيتشه تحديداً؟ وكيف يمكن لفكرة نعتبرها نحن مصدراً للطمأنينة أن تتحول في عينيه إلى أداة عذاب؟
لم يكن نيتشه يهاجم "الأمل" بمعناه اليومي البسيط، بل كان يستهدف ذلك "الأمل الميتافيزيقي" أو الوهمي الذي يرتبط بمفاهيم متجاوزة للحياة نفسها. في كتابه "هكذا تكلم زرادشت"، يصور نيتشه الأمل على أنه آخر الشرور التي خرجت من صندوق باندورا، ليظل مع الإنسان ويطيل من معاناته. الأمل، في هذا السياق، ليس حافزاً للمضي قدماً، بل هو مخدر وجودي.
يرى نيتشه أن الأمل، خاصة ذلك المرتبط بوعود الحياة الآخرة أو العدالة الإلهية المستقبلية أو السعادة الأبدية، هو هروب من مواجهة الواقع بقسوته وجماله. هذا الهروب يُطيل أمد المعاناة لأنه يشجع الإنسان على التسويف والتقاعس والتخلي عن مسؤوليته في خلق معناه في "هنا" و"الآن". بدلاً من أن يعيش الإنسان حياته بكثافتها ويواجه مصيره (ما يسميه نيتشه "حب القدر")، فإنه يعلق طموحاته على مستقبل وهمي، مما يجعله يعيش في حالة انتظار دائمة، متقبلاً بؤسه الحالي على أنه أمر مؤقت. هذا القبول هو ما يطيل العذاب ويجعله ممكناً.
النقد النيتشوي هنا موجه بشكل أساسي toward الأديان والمذاهب الفلسفية التي، في رأيه، شجعت على احتقار العالم المادي لصالح عالم مثالي في المستقبل. هذا الأمل الوهمي، حسب نيتشه، يجرد الحياة من قيمتها الحقيقية ويخدر الإنسان عن إرادته في القوة والتغلب على ذاته.
يمكن فهم فكرة نيتشه أيضاً من خلال تشبيه الأمراض الجسدية. إذا كان الألم جرس إنذار يخبرك بوجود مشكلة تحتاج إلى حل، فإن الأمل الوهمي بمثابة مسكن قوي يخفي الأعراض دون أن يعالج المرض الأساسي. تخيل مريضاً يعاني من مرض عضال، لكنه يعيش على أمل وهمي بشفاء معجزة. هذا الأمل قد يمنحه راحة نفسية مؤقتة، ولكنه في الوقت نفسه يمنعه من مواجهة حقيقة وضعه، perhaps للتأقلم معه، أو لإنهاء معاناته بكرامة. الأمل هنا يطيل أمد العذاب النفسي والجسدي.
يمكننا رؤية تجليات لفكرة نيتشه في عالمنا المعاصر:
* الوعد "بالثراء السريع": يعيش الكثيرون في أمل وهمي بثروة مفاجئة عبر اليانصيب أو المشاريع الوهمية، مما يطيل أمد فقرهم ويصرفهم عن السعي العملي البناء.
* العلاقات السامة: يبقى الشخص في علاقة مؤذية بسبب "الأمل" في أن الشريك سيتغير، مما يطيل من معاناته العاطفية.
* الثقافة الاستهلاكية: تُغذّي فينا الأمل بأن السعادة تكمن في الشراء التالي، في المنتج الجديد، في المنزل الأكبر. هذا الأمل يحافظ على دوامة الاستهلاك والإحباط التي لا تنتهي.
بالطبع، تظل مقولة نيتشه مثيرة للتحدي. فالأمل بمفهومه الإيجابي – ليس كوهم ميتافيزيقي بل كتفاؤل عملي – هو محرك أساسي للإنسان. الأمل في غد أفضل هو ما دفع البشرية للاكتشاف والعلم والفن. الأمل هو ما يعطي القوة للمضطهدين لكي يقاوموا، وللمرضى لكي يحاربوا. التخلي عن الأمل تماماً قد يقود إلى السلبية واليأس والاستسلام.
الفرق الجوهري هو بين الأمل "السلبي" الذي يجعل الإنسان متلقياً سلبياً ينتظر الخلاص من الخارج، والأمل "النشط" الذي يكون وقوده الإرادة والعمل والتحدي. نيتشه كان يهاجم النوع الأول.
لم تكن غاية نيتشه إصابة الإنسان بالإحباط، بل تحريره من الأوهام التي تُضعف إرادته. دعوته كانت إلى أن نعيش حياتنا بشجاعة وصدق، دون الهرب إلى وعود ملائكة. الأمل الحقيقي، من المنظور النيتشوي، لا يكمن في انتظار غد أفضل، بل في خلق ذلك الغد من خلال قبول التحدي والمعاناة كجزء أصيل من رحلة قهر الذات وإرادة الحياة. السؤال الذي يتركنا إياه هو: هل نستخدم الأمل كجسر للمستقبل، أم كقفص يحبسنا في انتظاره؟